الشياطين طليقة الآن في غزّة | شهادة

أطفال نازحون من القصف الإسرائيليّ، خان يونس، 15/11/2023 | بلال خالد (Getty).

 

الجحيم خاوٍ، وكلّ الشياطين في غزّة.

تعال لنصرخ معًا

مجروح هو صوتي.

 

مرحبًا من غزّة، الّتي لا يمكن أن تُكَبَّل مهما كبرت الأصفاد. هذه رسالة من بين أكوام الجثث، وكلمات تريد أن تقول شيئًا ربّما، لكن مع هذا، لن تتمكّن من قول الكثير. هي رسالة على عجالة لأنّنا لا نملك الوقت الكافي مع أنّنا لا نفعل شيئًا.

هذا النهار يكون قد مضى شهر ونصف - لم نَعُدْ نحسب الأيّام - على قرار إعدام هذه المدينة الطيّبة والعنيدة؛ بسبب أنّ أحدًا صرخ بصوت مسموع، وأيقظ كلّ شياطين الجحيم. اليوم هو الخامس والأربعون كما يخبرني شخص سألته في السوق، ونحن تحت سوط ما يمكن اعتباره: أكبر جريمة حرب في التاريخ تُبَثّ للمشاهد عبر المباشر. لكنّ المفردات، وإن كانت بهذه القوّة في تصوير القسوة - مفردات جبهاتنا المتضامنة معًا - غير أنّها ضعيفة في وصف الفداحة الّتي تعطيها: كلّنا ميّتون، وإن كنّا لا نزال ننجو، يومًا تلو الآخر، بين الجثث، في قبر لا يتّسع.

المفردات أيضًا مسحوقة؛ ربّما تتماهى مع حالة العار العامّة؛ إذ تُقْلَب الحقائق بصورة سافرة رأسًا على عقب. وتأخذ الصورة حيّزها الضيّق في التالي: قضيّة إنسانيّة، وفّروا لهم الغذاء والدواء.

يقول ألبرت آينشتاين: لن يدمّر العالم هؤلاء الّذين يفعلون أفعال الشيطان، بل الّذين يشاهدونهم دون أن يفعلوا شيئًا.

نحن لسنا جوعى فقط، يا أيّها العالم، نحن نريد إيقاف الإبادة أيضًا! هذه دعوتنا الأولى. من حقّنا أن نقول إنّنا لا نريد أن نُقْتَل. ومن حقّنا أن نقول إنّ تلاعب العالم بنا هو مضيعة للوقت. أكثر من سبعين عامًا هو وقت كافٍ ليفهم أيّ شخص.

قاسية هي الأيّام الّتي مرّت ولا تزال بيننا، وأعتقد أنّ وصفًا مبتذلًا مثل سكّين حافية تنحر، هو وصف أقرب للدقّة من أيّ آخر. وابتذالًا على ابتذال ما نحن فيه، فإنّ ساعات اليوم الواحد تمضي كأنّها عام على أقلّ تقدير.

أخذت اليوم على عادتي أمشي في شوارع مخيّم المغازي للاجئين في وسط قطاع غزّة، حيث نزحت عائلتي، وأخذتني أقدام هذا النهار من سوق المخيّم، الشحيح من الناس والبضائع معًا وصولًا إلى شارع صلاح الدين، الطريق الرئيسيّ الّذي يربط بين كلّ مدن القطاع، والّذي باتت تفصل شماله عن جنوبه دبّابات ميركافاه يقودها مرتزقة جِيء بهم، كما كلّ مرّة. دبّابات هائلة، شاهدها معظم الناس للمرّة الأولى، لكنّها بالنهاية آليّات عسكريّة إسرائيليّة؛ ما يعني بالطريقة الغزّيّة أنّ الأسفلت لن يتحمّلها.

من حيث كنت أقف، يمينًا هناك سماء غزّة، هناك بيتي الّذي قصفته الطائرات، وهناك بيت أبي، وبيت أختي، وبيوت أصدقاء وجيران وأقارب، هناك حيث يبدو - من كتل السواد الّتي تغطّي السماء نهارًا وليلًا - أنّ أحدًا أشعل فتيلًا لا ينطفئ، بينما سحب الدخان تقف هناك متسمّرة ربّما من هول المشهد أيضًا.

في اليوم الأوّل للحرب، استقبلنا نبأ استشهاد ابن عمّ لنا، كان محزنًا أنّنا لم نعرف كيف نودّعه. بعد يومين استشهد ابن عمّ آخر في قصف لمقرّ الدفاع المدنيّ في تلّ الهوى، كان صعبًا أنّنا لم نعرف إلّا بعد أيّام من دفنه. واستشهدت طفلتان أيضًا لأحد أقاربنا، سمعنا من الأخبار عنهما فقط؛ لأنّنا لم نكن نستطيع الاتّصال بأحد بعد قطع الاستعمار للاتّصالات.

يوميًّا تصلنا الأخبار عن فقدان شخص نعرفه؛ سواء بموته أو بوجوده تحت الأنقاض، يعاني من موت بطيء، ويتلكّأ الموت في أن يصله. شخص لطالما ضحكت معه أو تشاجرت، وأنت تعلم أنّه في وقته الأخير الآن، وأنّه في وقته الأخير ربّما يتذكّرك أنت؛ ضحكاتكم معًا ومشاجراتكم معًا. شخص قريب إلى هذه الدرجة، أقرب من أن يصله الموت، لكنّه يصله في نهاية المطاف بعد أيّام، عندما أخيرًا تتمكّن قدرات الدفاع المدنيّ بمعجزة من انتشال جثمانه.

شخص آخر يذهب وأنت باقٍ. لم يفعل شيئًا لأحد، مثلك تمامًا. شخص تشاركت معه في العمل، وأخبرك مرّات عدّة أنّه لا يستطيع حتّى اللوم، لوم رئيسه مثلًا، شخص لا يؤذي، شخص كتوم، ودود جدًّا، شخص وُلِد للمحبّة، شخص يمكن أن يؤذي كثيرًا، لكن فقط نفسه، شخص ليس بشجاعة أن ينظر في عينيك، أفكّر كيف نظر إلى عينَي الموت؛ هل تفكّر؟

تعال لنقل كلمة معًا: لا، لتكن عالية، تعال لنغضب.

معًا يمكن أن نغضب.

إذن، هو شهر ونصف من دون كهرباء وماء نظيف للشرب وماء للاستحمام، ومن دون غذاء كافٍ، أبسط المقوّمات، أليس كذلك؟ شهر ونصف بلا اتّصالات أو إنترنت، أشياء ليست للرفاهية هنا، لكنّها يمكن أن تساهم في إنقاذ أرواح، هل تفهمني؟ يمكن لرسالة واحدة فقط أن تكون سببًا في الحياة. شهر ونصف بعيدًا عن بيت تعرفه، شهر ونصف وأنت تفقد أصدقاء وأقارب وجيرانًا، شهر ونصف وليل نهار، طائرات فوق رأسك لا يتوقّف قصفها، ودبّابات على الأرض، ليست بعيدة أبدًا، ويمكن أن تصلك في أيّ لحظة، شهر ونصف وأنت تنتظر.

تنتظر أن تفهم لا أن تموت، لماذا بعد أعوام كهذه، لا تجد أخًا يحفر معك؟ ولماذا بعد أعوام كهذه تجد معول أخيك في يد قاتلك؟

في الأيّام الأولى للحرب، كنت في حيّ الرمال في بيت العائلة، حيث يجتمع كلّنا وقت الحروب - وما أكثرها - ولأنّي اعتقدت أنّ بيتي في حيّ الشجاعيّة هو أكثر الأماكن خطرًا في العالم في تلك اللحظة؛ نظرًا إلى ما جرت عليه العادة؛ إذ تبدأ طلعات الانتقام هناك، على أعند أحياء الدنيا قاطبة، حيث يسيل لعاب مجرمي الحرب. لكن ما حدث كان مغايرًا، في اليوم الأوّل قصفوا «برج فلسطين»، ليس ببعيد عنّا، وفي اليوم الثاني قصفوا دون إنذار بناية ملاصقة لنا، دبّ الرعب في الجميع عندما تكسّر الزجاج فوق رؤوسنا، ووصلت الشظايا إلى الداخل، حيث كنّا نعدّ طعام الغداء. ومغبّرين أخذنا القصف العنيف لأن نحمل أجسادنا، ونركض بين الدخان الأسود. جزء منّا وصل إلى السيّارة متّجهًا إلى مخيّم المغازي، والجزء الآخر - بمَنْ فيهم أنا - عدنا إلى البيت، وقضينا ليلة، لم تكن أفضل من هذه الليالي؛ إذ تشتدّ وتيرة القصف الهمجيّ كلّ يوم.

في اليوم التالي، بدأ معظم جيراننا بالنزوح إلى الجنوب؛ بسبب كثافة القصف على المنطقة الغربيّة لغزّة، وذهبنا أيضًا. تركنا الأبواب مفتوحة، وأخذنا القليل. ثمّ تنقلنا تباعًا من منطقة المغراقة لأيّام، ثمّ لأيّام أطول إلى مخيّم المغازي، في يوم مجزرة النازحين، وكنّا على بُعْد دقائق من أن نُباد أيضًا.

عدنا مرّة أخرى إلى غزّة (اشتقنا لدفا البيت)، وبقينا فيها لثلاثة أيّام، لم تكن أفضل أيّامنا على الإطلاق؛ هناك حيث بدأ الغزو البرّيّ، وامتدّ القصف، واقتربت القذائف أكثر. في ساعات الصباح الأولى من ذلك اليوم، ذهبنا مرّة أخرى إلى المخيّم، وعلى شارع صلاح الدين كانت الدبّابات قد قطعت الطريق بالفعل، وقد قُتِلَت عائلة هناك. لذا؛ ذهبنا من حيث الطريق الأبعد للمخيّم، من شارع الرشيد أو طريق البحر، كنّا العائلة الوحيدة في السيّارة، لم نجد شخصًا واحدًا طوال الطريق، وعلى اليمين كنت أنظر إلى الزوارق الحربيّة؛ منتظرًا قذيفة - لديّ فوبيا من البوارج - البعض منّا كان ينتظر أن تعترضنا دبّابة فجأة، أمّا مَنْ تبقّى فكانوا متأكّدين أنّها ستكون طائرة.

وصلنا في نهاية المطاف بمعجزة من الله. كان أطول طريق على الإطلاق، وعندما وصلنا إلى مدخل مخيّم النصيرات بدأ الأمر أشبه بسفر طويل ومغامرة لا تُصَدَّق. ويمكنني أن أقول بصدق إنّه أكثر أيّامنا رعبًا حتّى الآن؛ ونعم، رغم المجزرة الّتي حدثت في الشارع الخلفيّ لنا، في الأيّام الأولى لمجيئنا، وراح ضحيّتها أكثر من مئة شهيد.

ومع رحلة نزوحنا هذه، وتنقّلنا من بيت إلى آخر؛ في محاولة للركض بعيدًا عن الشياطين الطليقة الآن في غزّة، وقد تركت الجحيم خاويًا. أريد أن أقول إنّنا نُباد يوميًّا. منذ وُلِدنا. لكن ليتذكّر العالم أنّنا لا نموت.

 


 

أنيس غنيمة

 

 

 

مواليد مدينة غزّة، شاعر ومحرّر ومبرمج ويب. عضو التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة «يوتوبيا». حاصل على «جائزة الكاتب الشابّ في مجال الشعر» – المركز الأوّل (2017)، اّلتي تمنحها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان».